اقتراب ظهور السيد المسيح عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خيـر مبعوثٍ للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الوعد الأمين.
لقد أضحينا في آخر الزمن، عمَّ الجهلُ وتغلَّب الهوى، واستعصت الشهواتُ في النفوس ، استُحلَّ الحرامُ وحُرِّم الحلالُ، وفتحَ الناس باب الإباحية.
ظلامٌ دامسٌ وليلٌ أعتم القلوبَ والنفوس. ضبابُ الحضارة الكثيف أسملَ البصائر، ففرَّ الناس من الواقع، وغاصوا في غياهبِ الخمور والفجور، كما أغرق الضياء والنعيم، وحجبَ نور الحقِّ المقيم، قلق واضطرابٌ، ورعبٌ لا يفارقُ الصدور، من ظلم بني الإنسان للإنسان، ألمٌ عاصفٌ يجتاحُ الحنايا، يستنـزف الدمعَ من مآقٍ غاضَ ماؤها لقسوة أهل الحضارةِ وعمَائِها.
كابوسٌ رهيبٌ ترزحُ القلوبُ تحت وطأته، ذلٌّ تخطى القيم لنفوس أبت إلاَّ الذلّ من أجل لقمة عيش كريهة، عسفٌ أذهلَ الكائنات لمن يدَّعون بالحضارةِ والإنسانية والمكرمات، مهرجانٌ عظيمٌ ولكن من الأنَّاتِ إذ بطشَ القويُّ بالضعيفِ، والرجالُ بالنساء والأطفال، والأغنياءُ بالفقراء، صرخات التوجعِ والآهات تترى والعذاب سِجال.
اغْتِيلت الفضيلةُ، وأمسكت الرذيلةُ بصولجان الإمارة، فحلَّت بواديهم مآسي الخزي والخسارة، دُفنت القيم، واستعلى الطاغوتُ، فقُتلت النفوس وافْتقدت السعادة، طُلِّق الحياءُ فأصبحت سوق الشيطان رائجةً، عندها حلَّ البلاء وانعدم الرضى وأضحت الحياةُ جحيماً لا يطاق.
اندثرت الحقيقة إذ هجرَ الناس القرآن، كما هجر من قبله الإنجيل والتوراة، وتكالبوا على العلم، الإۤله المزيَّف (علم المخلوق الضعيف لا علم الخالق العظيم)، وأشاحوا عن الديّان مبدع الكمال ورب النعيم والسرور العميم، فانقطعت سبل السعادة، وغرق الناس في بحر الضنك والمرارة.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ...} (124) سورة طـه.
انكبّوا على ألوان الخمور والمخدرات يعبّون منها، وينشدون بها الفرار فترات، ليعودَ الأمر أشدُّ وأدهى وأكثرُ شراسةً وأطغى، حتى دفع اليأس والقنوط وخيبة الأمل من الدنيا الكثير الكثير في أمِّ الحضارات الخدّاعة الغرّارة إلى الانتحار وهجْر ما هفوا إليه من دنيا دنيّة.
آن الأوان ودار الزمان دورته، وملّت النفوس من الإعراض، إذ أترعت بالأمراض، حتى زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فتعالت النداءات أن عودوا إلى الحق، فالعوْد أحمد، والرجوع إلى الحق خيرٌ وأحب إلى الله من التمادي في الباطل، لقد أبى الرحمن الرحيم إلاَّ أن ينقذ بني الإنسان من هذا الهوان، فبعد أن ذاقوا مرارة الإعراض من طغيانهم وبغيهم وفسادهم، عندما تخلوا عن الإۤله مبدع الأكوان والأرض والسموات، فحلَّ فيهم الشقاء والبؤس والبأساء، طلبوا الخلاص من رب الخلاص: فاستجاب لهم ربهم أني: {... أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ...} (186) سورة البقرة، سأبدّل شقاءكم نعيماً، وغمّكم وهمكم بهجة وحبوراً، وسأجعل أرضكم جنَّات وغبطة أبديّة، سأعيد إليكم رسولاً عظيماً كريماً، يطيِّب عيشكم في ظلال روح وريحان، ورضى وبهجة وأمان، بظهور سيّد الأكوان (في عصره) سيدنا (عيسى المسيح عليه السلام ) إلى يوم تلقوني وأنا عنكم راض. فمن نعيم إلى نعيم أكبر، ومن سعادة إلى سعادة أعظم.
هذا العظيم الذي جاء للدنيا لهداية قومه، وجبر عثراتهم وإيقاظهم من رقادهم، ونقلهم من السعادة الموهومة الكاذبة إلى الحقيقة المنيرة المشرقة والكسب العظيم، وهم للمنطق ما استجابوا، وللعمى أرادوا، بذَل الكثير في نصحهم، وشقي لإسعادهم، لكن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، وما حلَّ في قلبٍ إلا أهمَّهُ ونغَّصه وأضناه، وفي الرذيلة والقسوة أرداه، فشهوتهم مستيقظة، وفكرهم في رقاد.
أحيا لهم الميّت، وأبرأ الأكمهَ والأبرصَ، ورأوا معجزاته كلها، وشاهدوا كمالاته ولطفه لمساً وحسّاً، ولكن قلبهم الأعمى بحب الدنيا جحد به ونكره، فاتهموه بالسحر، ناسين بغمرتهم المنحطة كمالاته الرفيعة التي لم يدانه فيها مخلوق، ولم يروا بمنظارهم المنحرف منطقه العالي الذي هو من الله مباشرةً، بل لم يشاهدوا لطفه وكماله، ورحمته وحنانه، فلم يعلموا لجهلهم على من يردُّون، فنكروا الوحي وأصمُّوا أسماعهم عن نداء ربهم الرحيم، فكان هُبوطُهم من سمائهم مُحْتماً، وفقدانهم لمنزلتهم التكليفية مبرماً، وقالوا كلمة الكفر ويا لهول ما قالوا، ظناً لا تحقيقاً بقولهم إنه المسيح الدجال، ثم الغضّ من أمّه الصدّيقة، التي هي أطهرُ نساء العالمين:
{...يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} (42) سورة آل عمران، فكانوا كمن يهوي من السماء فتخطفه الطير،أو تهوي به الريح في مكان سحيق، هذا عن اليهود، أما النصارى فكان قولهم لا واقع ولا منطق فيه، إذ نسبوا له ولأمه الألوهية وهو عليه السلام براء من الشرك، فالشرك شيء عظيم ولم ولن يخطر له على بال، لأنه لا يرى إلا الله مستغرقٌ بالله تعالى، فانٍ وباقٍ بالله، لأنه مشاهد مبصر، فما نسبوه إليه لا أصل ولا وجود له في نفسه، وهو مستسلم بروحه وكلّيته وجسمه إلى الله، فمن أين جاؤوا بهذا القول وخرقوه وهو عليه السلام منه براء.
بل سبق عليه السلام وحذَّرهم من الشرك بقوله: {... إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ ...} (72) سورة المائدة.
هذا البحث من علوم العلامة محمد أمين شيخو في كتاب السيد المسيح يلوح بالأفق